فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فَصْلٌ: التّدَاوِي:

فَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِعْلُ التّدَاوِي فِي نَفْسِهِ وَالْأَمْرُ بِهِ لِمَنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ مِنْ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ وَلَا هَدْيِ أَصْحَابِهِ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الْأَدْوِيَةِ الْمُرَكّبَةِ الّتِي تُسَمّى أقرباذين بَلْ كَانَ غَالِبُ أَدْوِيَتِهِمْ بِالْمُفْرَدَاتِ وَرُبّمَا أَضَافُوا إلَى الْمُفْرَدِ مَا يُعَاوِنُهُ أَوْ يَكْسِرُ سَوْرَتَهُ وَهَذَا غَالِبُ طِبّ الْأُمَمِ عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا مِنْ الْعَرَبِ وَالتّرْكِ وَأَهْلِ الْبَوَادِي قَاطِبَةً وَإِنّمَا عَنِيَ بِالْمُرَكّبَاتِ الرّومُ وَالْيُونَانِيّونَ وَأَكْثَرُ طِبّ الْهِنْدِ بِالْمُفْرَدَاتِ. وَقَدْ اتّفَقَ الْأَطِبّاءُ عَلَى أَنّهُ مَتَى أَمْكَنَ التّدَاوِي بِالْغِذَاءِ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَى الدّوَاءِ وَمَتَى أَمْكَنَ بِالْبَسِيطِ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَى الْمُرَكّبِ.
قَالُوا: وَكُلّ دَاءٍ قُدِرَ عَلَى دَفْعِهِ بِالْأَغْذِيَةِ وَالْحِمْيَةِ لَمْ يُحَاوَلْ دَفْعُهُ بِالْأَدْوِيَةِ.
قَالُوا: وَلَا يَنْبَغِي لِلطّبِيبِ أَنْ يَوْلَعَ بِسَقْيِ الْأَدْوِيَةِ فَإِنّ الدّوَاءَ إذَا لَمْ يَجِدْ فِي فَزَادَتْ كَمّيّتُهُ عَلَيْهِ أَوْ كَيْفِيّتُهُ تَشَبّثَ بِالصّحّةِ وَعَبِثَ بِهَا. وَأَرْبَابُ التّجَارِبِ مِنْ الْأَطِبّاءِ طِبّهُمْ بِالْمُفْرَدَاتِ غَالِبًا وَهُمْ أَحَدُ فِرَقِ الطّبّ الثّلَاثِ. وَالتّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ أَنّ الْأَدْوِيَةَ مِنْ جِنْسِ الْأَغْذِيَةِ فَالْأُمّةُ وَالطّائِفَةُ الّتِي غَالِبُ أَغْذِيَتِهَا الْمُفْرَدَاتُ أَمْرَاضُهَا قَلِيلَةٌ جِدّا وَطِبّهَا بِالْمُفْرَدَاتِ وَأَهْلُ الْمُدُنِ الّذِينَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ الْأَغْذِيَةُ الْمُرَكّبَةُ يَحْتَاجُونَ إلَى الْأَدْوِيَةِ الْمُرَكّبَةِ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنّ أَمْرَاضَهُمْ فِي الْغَالِبِ مُرَكّبَةٌ فَالْأَدْوِيَةُ الْمُرَكّبَةُ أَنْفَعُ لَهَا وَأَمْرَاضُ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالصّحَارِي مُفْرَدَةٌ فَيَكْفِي فِي مُدَاوَاتِهَا الْأَدْوِيَةُ الْمُفْرَدَةُ فَهَذَا بُرْهَانٌ بِحَسْبِ الصّنَاعَةِ الطّبّيّةِ.

.فَضْلُ طِبّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى طِبّ الْأَطِبّاءِ:

وَنَحْنُ نَقُولُ إنّ هاهنا أَمْرًا آخَرَ نِسْبَةُ طِبّ الْأَطِبّاءِ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ طِبّ الطّرْقِيّةِ وَالْعَجَائِزِ إلَى طِبّهِمْ وَقَدْ اعْتَرَفَ بِهِ حُذّاقُهُمْ وَأَئِمّتُهُمْ فَإِنّ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِالطّبّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ قِيَاسٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ تَجْرِبَةٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ إِلْهَامَاتٌ وَمَنَامَاتٌ وَحَدْسٌ صَائِبٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أُخِذَ كَثِيرٌ مِنْهُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْبَهِيمِيّةِ كَمَا نُشَاهِدُ السّنَانِيرَ إذَا أَكَلَتْ ذَوَاتَ السّمُومِ تَعْمِدُ إلَى السّرَاجِ فَتَلَغُ فِي الزّيْتِ تَتَدَاوَى بِهِ وَكَمَا رُئِيَتْ الْحَيّاتُ إذَا خَرَجَتْ مِنْ بُطُونِ الْأَرْضِ وَقَدْ عَشِيَتْ أَبْصَارُهَا تَأْتِي إلَى وَرَقِ الرازيانج فَتُمِرّ عُيُونَهَا عَلَيْهَا. وَكَمَا عُهِدَ مِنْ الطّيْرِ الّذِي يَحْتَقِنُ بِمَاءِ الْبَحْرِ عِنْدَ انْحِبَاسِ طَبْعِهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمّا ذُكِرَ فِي مَبَادِئِ الطّبّ. وَأَيْنَ يَقَعُ هَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْوَحْيِ الّذِي يُوحِيهِ اللّهُ إلَى رَسُولِهِ بِمَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرّهُ فَنِسْبَةُ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الطّبّ إلَى هَذَا الْوَحْيِ كَنِسْبَةِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعُلُومِ إلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ بَلْ هاهنا مِنْ الْأَدْوِيَةِ الّتِي تَشْفِي مِنْ الْأَمْرَاضِ مَا لَمْ يَهْتَدِ إلَيْهَا عُقُولُ أَكَابِرِ الْأَطِبّاءِ وَلَمْ تَصِلْ إلَيْهَا عُلُومُهُمْ وَتَجَارِبُهُمْ وَأَقْيِسَتُهُمْ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْقَلْبِيّةِ وَالرّوحَانِيّةِ وَقُوّةِ الْقَلْبِ وَاعْتِمَادِهِ عَلَى اللّهِ وَالتّوَكّلِ عَلَيْهِ وَالِالْتِجَاءِ إلَيْهِ وَالِانْطِرَاحِ وَالِانْكِسَارِ بَيْنَ يَدْيِهِ وَالتّذَلّلِ لَهُ وَالصّدَقَةِ وَالدّعَاءِ وَالتّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْخَلْقِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَالتّفْرِيجِ عَنْ الْمَكْرُوبِ فَإِنّ هَذِهِ الْأَدْوِيَةَ قَدْ جَرّبَتْهَا الْأُمَمُ عَلَى اخْتِلَافِ أَدْيَانِهَا وَمِلَلِهَا فَوَجَدُوا لَهَا مِنْ التّأْثِيرِ فِي الشّفَاءِ مَا لَا يَصِلُ إلَيْهِ عِلْمُ أَعْلَمِ الْأَطِبّاءِ وَلَا تَجْرِبَتُهُ وَلَا قِيَاسُهُ. وَقَدْ جَرّبْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا مِنْ هَذَا أُمُورًا كَثِيرَةً وَرَأَيْنَاهَا تَفْعَلُ مَا لَا تَفْعَلُ الْأَدْوِيَةُ الْحِسّيّةُ بَلْ تَصِيرُ الْأَدْوِيَةُ الْحِسّيّةُ عِنْدَهَا بِمَنْزِلَةِ أَدْوِيَةِ الطّرْقِيّةِ عِنْدَ الْأَطِبّاءِ وَهَذَا جَارٍ عَلَى قَانُونِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيّةِ لَيْسَ خَارِجًا عَنْهَا وَلَكِنّ الْأَسْبَابَ مُتَنَوّعَةٌ فَإِنّ الْقَلْبَ مَتَى اتّصَلَ بِرَبّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقِ الدّاءِ وَالدّوَاءِ وَمُدَبّرِ الطّبِيعَةِ وَمُصَرّفِهَا عَلَى مَا يَشَاءُ كَانَتْ لَهُ أَدْوِيَةٌ أُخْرَى غَيْرَ الْأَدْوِيَةِ الّتِي يُعَانِيهَا الْقَلْبُ الْبَعِيدُ مِنْهُ الْمُعْرِضُ عَنْهُ وَقَدْ عُلِمَ أَنّ الْأَرْوَاحَ مَتَى قَوِيَتْ وَقَوِيَتْ النّفْسُ وَالطّبِيعَةُ تَعَاوُنًا عَلَى دَفْعِ الدّاءِ وَقَهْرِهِ فَكَيْفَ يُنْكِرُ لِمَنْ قَوِيَتْ طَبِيعَتُهُ وَنَفْسُهُ وَفَرِحَتْ بِقُرْبِهَا مِنْ بَارِئِهَا وَأُنْسِهَا بِهِ وَحُبّهَا لَهُ وَتَنَعّمِهَا بِذِكْرِهِ وَانْصِرَافِ قُوَاهَا كُلّهَا إلَيْهِ وَجَمْعِهَا عَلَيْهِ وَاسْتِعَانَتِهَا بِهِ وَتَوَكّلِهَا عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَهَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَدْوِيَةِ وَأَنْ تُوجِبَ لَهَا هَذِهِ الْقُوّةُ دَفْعَ الْأَلَمِ بِالْكُلّيّةِ وَلَا يُنْكِرُ هَذَا إلّا أَجْهَلُ النّاسِ وَأَغْلَظُهُمْ حِجَابًا وَأَكْثَفُهُمْ نَفْسًا وَأَبْعَدُهُمْ عَنْ اللّهِ وَعَنْ حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِيّةِ وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللّهُ السّبَبَ الّذِي بِهِ أَزَالَتْ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ دَاءَ اللّدْغَةِ عَنْ اللّدِيغِ الّتِي رُقِيَ بِهَا فَقَامَ حَتّى كَأَنّ مَا بِهِ قَلَبَةٌ. فَهَذَانِ نَوْعَانِ مِنْ الطّبّ النّبَوِيّ نَحْنُ بِحَوْلِ اللّهِ نَتَكَلّمُ عَلَيْهِمَا بِحَسْبِ الْجَهْدِ وَالطّاقَةِ وَمَبْلَغِ عُلُومِنَا الْقَاصِرَةِ وَمَعَارِفِنَا الْمُتَلَاشِيَةِ جِدّا وَبِضَاعَتِنَا الْمُزْجَاةِ وَلَكِنّا نَسْتَوْهِبُ مَنْ بِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلّهُ وَنَسْتَمِدّ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنّهُ الْعَزِيزُ الْوَهّابُ.

.فَصْلٌ: الْحَثّ عَلَى التّدَاوِي وَرَبْطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبّبَاتِ:

رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لِكُلّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَفِي الصّحِيحَيْنِ: عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: «مَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنْ دَاءٍ إلّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً». وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: مِنْ حَدِيثِ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَاءَتْ الْأَعْرَابُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَتَدَاوَى؟ فَقَالَ «نَعَمْ يَا عِبَادَ اللّهِ تَدَاوَوْا فَإِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إلّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ» قَالُوا: مَا هُوَ؟ قَالَ «الْهَرَمُ» وَفِي لَفْظٍ: «إنّ اللّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إلّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَه».
وَفِي الْمُسْنَدِ: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْفَعُهُ: «إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إلّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ» عَنْ أَبِي خُزَامَةَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ وَتُقَاةً نَتّقِيهَا هَلْ تَرُدّ مِنْ قَدَرِ اللّهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ «هِيَ مِنْ قَدَرِ اللّهِ».

.مَعْنَى لِكُلّ دَاءٍ دَوَاءٌ:

فَقَدْ تَضَمّنَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ إثْبَاتَ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبّبَاتِ وَإِبْطَالَ قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لِكُلّ دَاءٍ دَوَاءٌ عَلَى عُمُومِهِ حَتّى يَتَنَاوَلَ الْأَدْوَاءَ الْقَاتِلَةَ وَالْأَدْوَاءَ الّتِي لَا يُمْكِنُ لِطَبِيبٍ أَنْ يُبْرِئَهَا وَيَكُونُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ قَدْ جَعَلَ لَهَا أَدْوِيَةً تُبْرِئُهَا وَلَكِنْ طَوَى عِلْمَهَا عَنْ الْبَشَرِ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ إلَيْهِ سَبِيلًا لِأَنّهُ لَا عِلْمَ لِلْخَلْقِ إلّا مَا عَلّمَهُمْ اللّهُ وَلِهَذَا عَلّقَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الشّفَاءَ عَلَى مُصَادَفَةِ الدّوَاءِ لِلدّاءِ فَإِنّهُ لَا شَيْءَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ إلّا لَهُ ضِدّ وَكُلّ دَاءٍ لَهُ ضِدّ مِنْ الدّوَاءِ يُعَالَجُ بِضِدّهِ فَعَلّقَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْبُرْءَ بِمُوَافَقَةِ الدّاءِ لِلدّوَاءِ وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرّدِ وَجُودِهِ فَإِنّ الدّوَاءَ مَتَى جَاوَزَ دَرَجَةَ الدّاءِ فِي الْكَيْفِيّةِ أَوْ زَادَ فِي الْكَمّيّةِ عَلَى مَا يَنْبَغِي نَقْلُهُ إلَى دَاءٍ آخَرَ وَمَتَى قَصَرَ عَنْهَا لَمْ يَفِ بِمُقَاوَمَتِهِ وَكَانَ الْعِلَاجُ قَاصِرًا وَمَتَى لَمْ يَقَعْ الْمُدَاوِي عَلَى الدّوَاءِ أَوْ لَمْ يَقَعْ الدّوَاءُ عَلَى الدّاءِ لَمْ يَحْصُلْ الشّفَاءُ وَمَتَى لَمْ يَكُنْ الزّمَانُ صَالِحًا لِذَلِكَ الدّوَاءِ لَمْ يَنْفَعْ وَمَتَى كَانَ الْبَدَنُ غَيْرَ قَابِلٍ لَهُ أَوْ الْقُوّةُ عَاجِزَةً عَنْ حَمْلِهِ أَوْ ثَمّ مَانِعٌ يَمْنَعُ مِنْ تَأْثِيرِهِ لَمْ يَحْصُلْ الْبُرْءُ لِعَدَمِ الْمُصَادَفَةِ وَمَتَى تَمّتْ الْمُصَادَفَةُ حَصَلَ الْبُرْءُ بِإِذْنِ اللّهِ وَلابد وَهَذَا أَحْسَنُ الْمَحْمِلَيْنِ فِي الْحَدِيثِ. وَالثّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَامّ الْمُرَادِ بِهِ الْخَاصّ لاسيما وَالدّاخِلُ فِي اللّفْظِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ الْخَارِجِ مِنْهُ وَهَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي كُلّ لِسَانٍ وَيَكُونُ وَضَعَ لَهُ دَوَاءً فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْأَدْوَاءُ الّتِي لَا تَقْبَلُ الدّوَاءَ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الرّيحِ الّتِي سَلّطَهَا عَلَى قَوْمِ عَادٍ: {تُدَمّرُ كُلّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبّهَا} [الْأَحْقَافُ 25] أَيْ كُلّ شَيْءٍ يَقْبَلُ التّدْمِيرَ وَمِنْ شَأْنِ الرّيحِ أَنْ تُدَمّرَهُ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَمَنْ تَأَمّلَ خَلْقَ الْأَضْدَادِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَمُقَاوَمَةَ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ وَدَفْعَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَتَسْلِيطَ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ تَبَيّنَ لَهُ كَمَالُ قُدْرَةِ الرّبّ تَعَالَى وَحِكْمَتُهُ وَإِتْقَانُهُ مَا صَنَعَهُ وَتَفَرّدُهُ بِالرّبُوبِيّةِ وَالْوَحْدَانِيّةِ وَالْقَهْرِ وَأَنّ كُلّ مَا سِوَاهُ فَلَهُ مَا يُضَادّهُ وَيُمَانِعُهُ كَمَا أَنّهُ الْغَنِيّ بِذَاتِهِ وَكُلّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ بِذَاتِهِ.

.الْأَمْرُ بِالتّدَاوِي وَبِأَنّهُ لَا يُنَافِي التّوَكّلَ:

وَفِي الْأَحَادِيثِ الصّحِيحَةِ الْأَمْرُ بِالتّدَاوِي وَأَنّهُ لَا يُنَافِي التّوَكّلَ كَمَا لَا يُنَافِيهِ دَفْعُ دَاءِ الْجَوْعِ وَالْعَطَشِ وَالْحَرّ وَالْبَرْدِ بِأَضْدَادِهَا بَلْ لَا تَتِمّ حَقِيقَةُ التّوْحِيدِ إلّا بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الّتِي نَصَبَهَا اللّهُ مُقْتَضَيَاتٍ لِمُسَبّبَاتِهَا قَدَرًا وَشَرْعًا وَأَنّ تَعْطِيلَهَا يَقْدَحُ فِي نَفْسِ التّوَكّلِ كَمَا يَقْدَحُ فِي الْأَمْرِ وَالْحِكْمَةِ وَيُضْعِفُهُ مِنْ حَيْثُ يَظُنّ مُعَطّلُهَا أَنّ تَرْكَهَا أَقْوَى فِي التّوَكّلِ فَإِنّ تَرْكَهَا عَجْزًا يُنَافِي التّوَكّلَ الّذِي حَقِيقَتُهُ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللّهِ فِي حُصُولِ مَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرّهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَلابد مَعَ هَذَا الِاعْتِمَادِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ وَإِلّا كَانَ مُعَطّلًا لِلْحِكْمَةِ وَالشّرْعِ فَلَا يَجْعَلُ الْعَبْدَ عَجْزَهُ تَوَكّلًا وَلَا تَوَكّلَهُ عَجْزًا.

.التّدَاوِي وَالشّفَاءُ مُقَدّرٌ وَالرّدّ عَلَى الْجَبْرِيّةِ:

وَفِيهَا رَدّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ التّدَاوِي وَقَالَ إنْ كَانَ الشّفَاءُ قَدْ قُدّرَ فَالتّدَاوِي لَا يُفِيدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قُدّرَ فَكَذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِنّ الْمَرَضَ حَصَلَ بِقَدَرِ اللّهِ وَقَدَرُ اللّهِ لَا يُدْفَعُ وَلَا يُرَدّ وَهَذَا السّؤَالُ هُوَ الّذِي أَوْرَدَهُ الْأَعْرَابُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. وَأَمّا أَفَاضِلُ الصّحَابَةِ فَأَعْلَمُ بِاَللّهِ وَحِكْمَتِهِ وَصِفَاتِهِ مِنْ أَنْ يُورِدُوا مِثْلَ هَذَا وَقَدْ أَجَابَهُمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَا شَفَى وَكَفَى فَقَالَ هَذِهِ الْأَدْوِيَةُ وَالرّقَى وَالتّقَى هِيَ مِنْ قَدَرِ اللّهِ فَمَا خَرَجَ شَيْءٌ عَنْ قَدَرِهِ بَلْ يَرُدّ قَدَرَهُ بِقَدَرِهِ وَهَذَا الرّدّ مِنْ قَدَرِهِ وَيُقَالُ لِمُورِدِ هَذَا السّؤَالِ هَذَا يُوجِبُ عَلَيْك أَنْ لَا تُبَاشِرَ سَبَبًا مِنْ الْأَسْبَابِ الّتِي تَجْلِبُ بِهَا مَنْفَعَةً أَوْ تَدْفَعُ بِهَا مَضَرّةً لِأَنّ الْمَنْفَعَةَ وَالْمَضَرّةَ إنْ قُدّرَتَا لَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ وُقُوعِهِمَا وَإِنْ لَمْ تُقَدّرَا لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إلَى وُقُوعِهِمَا وَفِي ذَلِكَ خَرَابُ الدّينِ وَالدّنْيَا وَفَسَادُ الْعَالَمِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ إلّا دَافِعٌ لِلْحَقّ مُعَانِدٌ لَهُ فَيَذْكُرُ الْقَدَرَ لِيَدْفَعْ حُجّةِ الْمُحِقّ عَلَيْهِ كَالْمُشْرِكِينَ الّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الْأَنْعَامُ 148] و{لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا} [النّحْلُ 35] فَهَذَا قَالُوهُ دَفْعًا لِحُجّةِ اللّهِ عَلَيْهِمْ بِالرّسُلِ. وَجَوَابُ هَذَا السّائِلِ أَنْ يُقَالَ بَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ لَمْ تَذْكُرْهُ وَهُوَ أَنّ اللّهَ قَدّرَ كَذَا وَكَذَا بِهَذَا السّبَبِ فَإِنْ أَتَيْتَ بِالسّبَبِ حَصَلَ الْمُسَبّبُ وَإِلّا فَلَا فَإِنْ قَالَ إنْ كَانَ قَدّرَ لِي السّبَبَ فَعَلْته وَإِنْ لَمْ يُقَدّرْهُ لِي لَمْ أَتَمَكّنْ مِنْ فِعْلِهِ. قِيلَ فَهَلْ تَقْبَلُ هَذَا الِاحْتِجَاجَ مِنْ عَبْدِك وَوَلَدِك وَأَجِيرِك إذَا احْتَجّ بِهِ عَلَيْك فِيمَا أَمَرْتَهُ بِهِ وَنَهَيْتَهُ عَنْهُ فَخَالَفَك؟ فَإِنْ قَبِلْته فَلَا تَلُمْ مَنْ عَصَاك وَأَخَذَ مَالَك وَقَذَفَ عِرْضَك وَضَيّعَ حُقُوقَك وَإِنْ لَمْ تَقْبَلْهُ فَكَيْفَ يَكُونُ مَقْبُولًا مِنْك فِي دَفْعِ حُقُوقِ اللّهِ عَلَيْك. وَقَدْ رُوِيَ فِي أَثَرٍ إسْرَائِيلِيّ أَنّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ قَالَ يَا رَبّ مِمّنْ الدّاءُ؟ قَالَ مِنّي. قَالَ فَمِمّنْ الدّوَاءُ؟ قَالَ مِنّي. قَالَ فَمَا بَالُ الطّبِيبِ؟. قَالَ رَجُلٌ أُرْسِلُ الدّوَاءَ عَلَى يَدَيْهِ.
وَفِي قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ «لِكُلّ دَاءٍ دَوَاءٌ» تَقْوِيَةٌ لِنَفْسِ الْمَرِيضِ وَالطّبِيبِ وَحَثّ عَلَى طَلَبِ ذَلِكَ الدّوَاءِ وَالتّفْتِيشِ عَلَيْهِ فَإِنّ الْمَرِيضَ إذَا اسْتَشْعَرَتْ نَفْسُهُ أَنّ لِدَائِهِ دَوَاءً يُزِيلُهُ تَعَلّقَ قَلْبُهُ بِرُوحِ الرّجَاءِ وَبَرُدَتْ عِنْدَهُ حَرَارَةُ الْيَأْسِ وَانْفَتَحَ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِقُوّةِ الْأَرْوَاحِ الْحَيَوَانِيّةِ وَالنّفْسَانِيّةِ وَالطّبِيعِيّةِ وَمَتَى قَوِيَتْ هَذِهِ الْأَرْوَاحُ قَوِيَتْ الْقُوَى الّتِي هِيَ حَامِلَةٌ لَهَا فَقَهَرَتْ الْمَرَضَ وَدَفَعَتْهُ. وَكَذَلِكَ الطّبِيبُ إذَا عَلِمَ أَنّ لِهَذَا الدّاءِ دَوَاءً أَمْكَنَهُ طَلَبُهُ وَالتّفْتِيشُ عَلَيْهِ. وَأَمْرَاضُ الْأَبْدَانِ عَلَى وِزَانِ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَمَا جَعَلَ اللّهُ لِلْقَلْبِ مَرَضًا إلّا جَعَلَ لَهُ شِفَاءً بِضَدّهِ فَإِنْ عَلِمَهُ صَاحِبُ الدّاءِ وَاسْتَعْمَلَهُ وَصَادَفَ دَاءَ قَلْبِهِ أَبْرَأَهُ بِإِذْنِ اللّهِ تَعَالَى. اهـ.

.تفسير الآية رقم (32):

قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان من المعلوم أن ما كانوا ألفوه واتخذوه دينًا يستعظمون تركه، لأن الشيطان يوسوس لهم بأنه توسع الدنيا، والتوسع فيها مما ينبغي الزهد فيه كما دعا إليه كثير من الآيات، أكد سبحانه الإذن في ذلك بالإنكار على من حرمه، فقال منكرًا عليهم إعلامًا بأن الزهد الممدوح ما كان مع صحة الاعتقاد في الحلال والحرام، وأما ما كان مع تبديل شيء من الدين بتحليل حرام أو عكسه فهو مذموم: {قل} منكرًا موبخًا {من حرم زينة الله} أ ي الملك الذي لا أمر لأحد معه {التي أخرج لعباده} أي ليتمتعوا بها من الثياب والمعادن وغيرها.
ولما ذكر الملابس التي هي شرط في صحة العبادة على وجه عم غيرها من المراكب وغيرها، أتبعها المآكل والمشارب فقال: {والطيبات} أي من الحلال المستلذ {من الرزق} كالبحائر والسوائب ونحوها؛ ولما كان معنى الإنكار: لم يحرمها من يعتبر تحريمه بل أحلها، وكان ربما غلا في الدين غال تمسكًا بالآيات المنفرة عن الدينا المهونة لشأنها مطلقًا فضلًا عن زينة وطيبات الرزق، قال مستأنفًا لجواب من يقول: لمن؟: {قل هي} أي الزينة والطيبات {للذين آمنوا} وعبر بهذه العبارة ولم يقل: ولغيرهم، تنبيهًا على أنها لهم بالاصالة {في الحياة الدنيا} وأما الكفار فهم تابعون لهم في التمتع بها وإن كانت لهم أكثر، فهي غير خالصة لهم وهي للذين آمنوا {خالصة} أي لا يشاركهم فيها أحد، هذا على قراءة نافع بالرفع، والتقدير على قراءة غيره: حال كونها خالصة {يوم القيامة} وفي هذا تأكيد لما مضى من إحلالها بعد تأكيد ومحو الشكوك، وداعية للتأمل في الفصل بين المقامين لبيان أن الزهد المأمور به إنما هو بالقلب بمعنى أنه لا يكون للدنيا عنده قدر ولا له إليها التفات ولا هي أكبر همه، وأما كونها ينتفع بها فيما أذن الله فيه وهي محقورة غير مهتم بها فذلك من المحاسن.
ولما كان هذا المعنى من دقائق المعاني ونفائس المباني، أتبعه تعالى قوله جوابًا لمن يقول: إن هذا التفصيل فائق فهل يفصل غيره هكذا؟ {كذلك} أي مثل هذا التفصيل البديع {نفصل الآيات} أي نبين أحكامها ونميز بعض المشبهات من بعض {لقوم يعلمون} أي لهم ملكة وقابلية للعلم ليتوصلوا به إلى الاعتقاد الحق والعمل الصالح. اهـ.